Wednesday 3 October 2012

{Kantakji Group}. Add '11288' قراءة في كتاب الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر



--  

http://www.nqeia.com/vb/uploaded/1_1212271447.gif

 

 

قراءة في كتاب الاجتهاد والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر

دراسة في الأسس المرجعية والمنهجية الاجتهاد و التجديد

من منظور اسلامي

 

معن البرازي [i]

مراقب ومدقق الشرعي - هيئة المحاسبة والمراجعة للمصارف المالية الإسلامية

 

-يقارب الدكتور سعيد شبرا النقاش حول قضية الاجتهاد والتجديد من بابه الواسع في كتابه الاجتهاد والتجديد[1] ويطرح قراءة متجددة للاشكاليات والأدبيات الفلسفية والعقائدية التي رافقت حركة التجديد و أسقطت على معاني الاجتهاد مفاضلات متعددة في الفكر الاسلامي المعاصر.

وعلى الرغم من أن الشبار يقول أن الأصل في تبيان مواضع الاختلاف في تعريفات الأصوليين وبعض التعديلات الموجهة إليها ليس الخلوص إلى ترجيح تعريف معين أو استخلاص تعريف جديد منها، لكن الإشكال من زاوية نظر تعالج مسألة تخلف الأمة وتعطل حركة العقل والفكر فيها، والاجتهاد على رأسها، هو اختزال مفهوم الاجتهاد الذي كان فعلاً حركة عقل ومجتمع في إطار أصول دينية واضحة، وجعله آلة خاصة بمجال التداول الفقهي الذي كان بدوره المغذي الأكبر لهذه الحركة. لكنه لما أتى على هذا المجال زمان من الجمود والانكماش، قضى على تلك الحركة أن تتوقف، وعلى العقل أن يستقيل، وعلى الاجتهاد أن «يغلق» بابه، وعلى الأمة بالتالي أن تنسحب من موقع القيادة.

ونقرأ للدكتور إسماعيل راجي الفاروقي، وهو يفسر – في عبارات بليغة ومختصرة لما تقدم – انحسار الاجتهاد «على يد السلف في عملية استنباط الأحكام من أدلتها الشرعية أو مصادرها الأصولية» وأخذ إما فهم المعاصرين للخلاف بين مفهومي التجديد والإخماد فهو لم يؤلف وجوباً بحسب الشبار عن إلغاء الأصول فهم أوردوا رسموا دائرة خلقة أخرى حول هذا المفهوم بين «الترجيحي انتقائي» يقوم على «اختيار أحد الآراء المنقولة في تراثنا الفقهي العريض للفتوى أو القضاء به، ترجيحاً له على غيره من الآراء والأقوال الأخرى» و«إبداعي إنشائي» يقوم على «استنباط حكم جديد في مسألة من المسائل، لم يقل به أحد من السابقين، سواء كانت المسألة قديمة أو جديدة»([2]).

ويعرض في الباب الأول لدراسة في المصطلحات والمفاهيم المحورية الموجهة لحركة التجديد والاجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر يركز فيها على ثلاثة فصول :

الفصل الأول : في معنى الاجتهاد وعلاقته بالرأي

الفصل الثاني : في المقتضيات المرجعية والمنهجية للاجتهاد

الفصل الثالث : في شروط المجتهد , وجدل الائتلاف والاختلاف

ويخوض الشّبار في مفهوم التجديد عبر أربعة محاور رئيسة يمكن اعتبارها مقدمة لفهم الاختلاف الذي طبع معنى الاجتهاد في التراث الفكري العربي .

أما المحور الأول فيبحث في مفهوم الاجتهاد كمفهوم يسعى الى استنباط المفاهيم المحورية  في الفكر الاسلامي ويربط جوهرها الابستمولوجي في علاقتها بالرأي ومقتضياته المرجعية الأصولية. ولجدل الائتلاف والاختلاف وشروطه المنهجية نصيب وافر من هذه المناقشات.

أمّا المحور الثاني فيخصصه الشبار" لحفريات المعرفة" في تسطير مفاهيم التجديد والتقليد والاتباع وأشكال علاقتها بالاجتهاد وكأنه ينحى منحى ميشال فوكو في مقاربته لمسألة الأسس الفلسفية متناولاً الأسس المرجعية والمنهجية للتجديد في الفكر الاسلامي المعاصر وتعدد مرجعياته في الفهم والاستعمال ويجعل الشبار لمفهومي التقليد والاتباع وأوجه التقابل والتكامل مع الاجتهاد محورا" رئيسيا" في هذا النقاش.

أمّا المحور الثالث  فيفند الشبار في مفهوم الأمة ككيان تاريخي ناظم لحركات الاجتهاد والتجديد والإصلاح والنهضة وفي مقارنته تلك يضفي رونقاً برّاقاً على قضية الدلالة التاريخية والواقعية وضرورات إفادة الفكر الراهن من ذلك كلّه ويسأل عن مفهوم "المرجعية على انها أرضية ثابتة للعمل النهضوي".

ويخلص الشبار في الباب الرابع والأخير لرصد لنماذج عملية من حركات الإصلاح والنهضة, بدراسة مرجعياتها ومناهجها في الإصلاح والتغيير وعوامل الانهيار والانحسار فيها. ويمهد لهذه المسألة  بحديث عن نظام الثقافة عموماً وعلاقتها بالتغيير.

ولعلّ أفضل نقاط القوة التي يمكن إبرازها فيطرح الشبار  لأحجية التفصيل بين الاختلاف والتجديد هو أنّ الخوض في الاجتهاد و التجديد يطرح أسئلة محورية حول سبب  انحسار الوعي الاسلامي نفسه، فبينما كانت تسود في صدر الاسلام رؤية عامة شاملة لجميع مرافق الحياة تؤثر في كل عمل (وكل دقيقة من حياة المسلم) كان السائد في القرون التالية عبادات يؤمها الأئمة( وقوانين تديرها المحاكم) وحلقات ذكر ورياضة روحية يرودها مشايخ الصوفية أتت سنوات المحنة لتقوض الحجرات وتؤسس لفصام حقيقي في اللاوعي الجماعي للأمة. فالمسلمون الذين لم يتساءلوا عن علاقة الاسلام بالآداب والعلوم والفنون التي بقيت خارج الحظيرة, ولا بالتجارة والزراعة والصناعة ولا بسبل العيش الأخرى من سياسية وعسركية واجتماعية أضحوا يهابون الاجتهاد وأضحوا أسرى الرتابة الفكرية والتنظير الأعمى ويقول الشبار:

"وها نحن أولئك نفيق من سباتنا فنجد أنّ أثاثنا فرنجي, وأن ملابسنا فرنجية, وأنّ سبل الترفيه لدينا فرنجية, وأنّ علومنا الحديثة كلها فرنجية, وأنّ عمارتنا فرنجية... بل إنّ لغة التخاطب عندنا كثيراً ما تعتريها المصطلحات الفرنجية...(1) .

ويبدأ الشبار مبكراً في أطروحته في رسم الحدود التي حددت العلاقة بين التجديد والاجتهاد في الموروث الثقافي للامة الاسلامية ويقول أن الأمة الاسلامية انقسمت حول طبيعة الاجتهاد وشرعيته ففريق يرتدّ منكفئاً ليجعل من عالمه الخاص عالماً كلياً وعامّاً, فيحيط نفسه بسياج من المعارف, ويطوق ذاته بنظام من الاحكام تسهم مع مر الوقت في عزله وتحييده عن أية مشاركة فاعلة (2) وأخفق بعد تموضعه وهو في "الجزر الفكرية المنعزلة" إلى تقديم حلول بحجم المشكلات المطروحة كما أخفق في إيجاد أرضية فكرية خلّاقة للإسهام في التغيير والبناء (3) .

ويقول الشبار أن هذه العزلة الفكرية فرضت نفسها على الساحة الفكرية التي وقعت أسيرة آفة من أخطر الآفات المدمرة لنشاط العقل وعمله وهي آفة التقليد تحت غطاء الاجتهاد وعدم التجديد في الفكر الاسلامي المعاصر من جهة والتقليد تحت غطاء النهضة لعدم التحديث في المقاربات الفكرية من جهة أخرى.فالمطلوب اليوم ليس العمل على إزاحة هذه الأغطية عن المفكرين معاً, وضبط عمليات الاجتهاد والتجديد والنهضة والتحديث.إنما تكوين وحدة مرجعية ومنهجية للنهوض بعمل اجتهادي تجديدي تاريخي. وعليه يحمل الكاتب جمهور المقلدين مسؤولية النيل من الفكر الأصولي (التأصيلي؟) وقطع كل رحم مع تلك الأصول والمراجع, وتعطيل كل إبداع تراثي أو عمل عقلي ذاتي.

ويقود الشبار حملة عنيفة على الحركات الفكرية التي عمدت مدارسها أو فرقها واتجاهاتها إلى محاصرة الوحي بأفهامها, فلا تسمح له بالامتداد إلا بمقدار ما تسمع به عقولنا ومداركها, فتحرم بذلك عقولاً أخرى من حظها في الفهم وتصادر حقها في الرأي والاجتهاد.

أما السؤال المنهجي الذي يطرحه الشبار  فهو في كيفية فهم أسس الجدل الذي أجج اشكالية التجديد والاجتهاد و عليه يرد هذه المقاربة التاريخية الانتروبولوجية إلى ثلاثة محاور رئيسة :

الأول : الانفصام بين النخبة والأمة واحتكار قضايا الاجتهاد .

الثاني : ادخال فكرة "تغير الباراديم" السائد وهي فلسفة قبلت كأساس للتقدم في الفكر الغربي وهي قاعدة لها أحدية مميزة في الإطار المرجعي المنهي الذي أصبح أشبه بفكر توتاليتاري يفرض على المفكرين ومناهجهم, أمّا الاطار الاستيعابي للتجديد فهو أضحى أسيراً للأنساق المعرفية والفلسفات التي تحكّمت في مسار التجربة الغربية وعليه سهلت اندماج التجرية الفلسفية الاسلامية مع الموروث الاغريقي.

يحمل الشبار مسؤولية عدم التحديد وعزل الامة وعدم مشاركتها الجماعية في التفقه في الدين واحتكار النخب التي تداولت على سدة الفكر والحكم لقضية الاجتهاد وتنصيب نفسها وصية على الدين.وعلى الدولة وعلى الفكر والثقافة و بناء جدارا بين القاعدة والحقيقة للأمة واعتبارها وريثة بقايا معالم النبوة في العصمة والشهادة والخيرية والوسطية.

وعليه أضحى هذا المنطلق  في التفكير يطال حتى مناهج الاستمداد من نصوص الوحي نفسها, فلا يكاد ينظر فيها إلا باعتبارها تشريعات للفرد وحالاته الخاصة وأحكاماً مباشرة في ذلك, مع إغفال كبير للتأسيس والتنظير الجماعي الاجتماعي ومقاصده والتعليل المرافق له وما إلى ذلك.

ومما لا شك فيه أنّ أفول التجديد طرح اشكالية في اعتماد قضية المنهج في المجدد والمجتهد وهذه القضية أصبحت محورية في تقديم الشبار لابستمولوجية المعرفة ومظلتها التاريخية وهي التي شملت حتى مناهج العلوم الكونية والطبيعية والتجريبية التقنية.

ويرى الشبار أن التجديد في مناهج العلوم قد رد إلى أصل كلي واحد قائم إما على "الاستقراء" أو "الاستنباط" أو مرتبط موضوعياً "بالتحليل والتركيب", وإمّا على "وحدة العقل الانساني" أو "الكون الطبيعي" أو "وحدة الحضارة وأصولها الثقافية" أو غير ذلك من الأصول المرجعية ولكن من دون الوصول الى حل لهذه الأحجية.

ويخصص الشبار الباب الأول  للخوض في المصطلحات والمفاهيم المحورية الموجهة لحركة التجديد والإجتهاد في الفكر الإسلامي المعاصر ويقول أن المطلوب اعتماد منهجا" يقتضي إستقراء منحنى الإجتهاد مصطلحاً ومفهوماً ويبحث في مقتضياته المرجعية والمنهجية. وهويخصص فصلا" كاملا" في معنى الإجتهاد وعلاقته بالرأي فصلا" أخر لتباين شروط المجتهد وجدل الإتفاق والإختلاف.

 

الفصل الأوّل

في معنى الإجتهاد وعلاقته بالرأي

المبحث الأوّل: الإجتهاد في اللغة والشرع والإصطلاح

في هذا المبحث يطرح الشبار عدد من المفاهيم السائدة حول أصول كلمة الإجتهاد زيرجع هذه المفاهيم الى أبو بكر بن دريد و ابن منظور والراغب الأصفهاني وابن الأثير والزبيدي والشريف البرجاني. فأصل كلمة الإجتهاد حسب الشبار مردها الجهد ( بالفهم ) والجهد (بالفهم)

ويقال في المصطلح الأول بلغ الرجل جهده وجهده ومجهوده, إذا بلغ أقصى قوته وطوقه, وجهدت الرجل إذا حملته على أن يبلغ مجهوده (1).

أما التمييز بين الجَهد والجُهد (بالفتح والضم) على أنها الطاقة والوسع, وبين الجَهد (بالفتح) على أنه المشقة فقط (2) فمردهاالى أصول الكلمة في لسان العرب.

(1)              محمد بن الحسن الأزدي البصري, أبو بكر بن دريد: جمهرة اللغة, دار صادر, بيروت. ج 2 / ص71.

(2)              محمد جال الدين بن مكرم, ابن منظور: لسان العرب, دار صادر, بيروت. ج3/ ص13. وأيضاً محمد مجب الدين أبي الفيض, مرتضى الزبيدي: تاج العروس من جواهر القاموس, دار الرشاد الحديثة, دار الفكر للطباعة والنشر. ج2/20 المبارك بن محمد الجزري مجد الدين أبو السادات, ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر. تحقيق طاهر أحمد الزاوي محمود محمد, الطناحي. المكتبة الإسلامية لرياض الشيخ. ج1/ ص320.

أما  الجهد (بالفهم) فهو ما أجهد الإنسان من مرض أو مشاق فهو مجهود (1). و"جهد دابته وأجهدها, بلغ جهدها وحمل عليها في السير فوق طاقتها"(2), و"جهدت الطعام أكثرت من أكله"(3), و"جهدت فلاناً إذا بلغت مشقته وأجهدته أن يفعل كذا وكذا"(4), أمّا "الإجتهاد, فهو أخذ النفس ببذل الطاقة وتحمّل المشقة, يقال: جهدت رأيي, وأجهدته أتعبته بالفكر"(6). و"جهد الرجل في الأمر إذا جد فيه وبالغ"(7).

 

(1)              ابن منظور: لسان العرب. ج3/ ص133.

(2)              المرجع السابق, ج3/ ص133.

(3)              المرجع السابق, ج3/ ص135.

(4)              المرجع السابق, ج3/ ص133.

(5)              المرجع السابق, ج3/ ص133.

(6)              الحسين بن محمد, الراغب الأصفهاني: معجم مفردات ألفاظ القرآن, تحقيق نديم مرعشلي, دار الفكر ص99.

(7)              ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث, ج1/ ص320.

 

 


 

ويبرز الشبار للإستعمال القرآني لمادة ( ج هـ د ), فهي تضمنت بمعنى الجهاد بصيغ مختلفة (جاهد, جاهداك, جاهدوا, تجاهدوا, تجاهدون, يجاهد, جاهدهم, جهاد ...) سواء أتعلّق الأمر ببذل الجهد في القتال, بالمال, بالدعوة والإقناع, أو بغير ذلك. ويرى الشبار استعمالات قليلة في آيات معدودات وهنّ خمس آيات ورد فيهن بصيغة (جَهْدَ), وآية بصيغة (جُهْدَهم), والآيات الخمس هي:

 

-         (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا ) ] الأنعام: 109 [ .

-         (أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) ] المائدة: 53 [ .

-         (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ) ] النحل: 38 [ .

-         (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ) ] فاطر: 42 [ .

-         (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ) ] النور: 53 [ .و الآية الأخرى هي:

-         (وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ) ] التوبة: 79 [ .

 

ويقول أن استعمالات القرآن الكريم لمادة (جَهد) لا تخرج عن المعنى الأصلي لمعاني اللغة. أما بخصوص مشتقاتها, فالمصرح به في القرآن هو لفظ الجهاد, الذي حددت له مضامين شرعية تتعلق بأحكامه من حيث وجوبه (العيني أو الكفائي), وأجره وثوابه, والأحكام المتعلّقة بالقتال والفيء ...

أما أصل الكلمة ودلالاتها في الحديث النبوي الشريف,و لم يخرج عن الاستعمال اللغوي الأصلي للفظ, فهو متداول ومستعمل في المعنى مفسه أو المعاني السابقة. لكنها حددت لها مجالاً معيناً عمل العلماء على استخراجها وبلورتها فيما بعد في العلوم الشرعية عموماً وفي علم الأصول على وجه أخص.

ويعطي مثال على ذلك حديث معقل بن يسار: "سمعت رسول الله يقول: ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم وينصح إلا لم يدخل معهم الجنة"(1). في حديث عائشة عن بدء الوحي عنه عليه السلام: "فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد"(2).

(1)              صحيح الإمام مسلم: شرح النووي, كتاب الإيمان, باب استحقاق الوالي الغاش لرعيته النار, ج3 / ص161.

(2)              البخاري : الجامع الصحيح – مع فتح الباري – كتاب بدء الوحي, ج1 / ص22.

في حديث جابر بن عبد الله, أنّ رسول الله في بعض أسفاره رأى ناساً مجتمعين على رجل فسأل رسول الله , فقالوا: رجل جهده الصيام (1).

وفي حديث طلحة بن عبد الله: أن رجلين من بليٍّ قدما على رسول الله , وكان اسلامهما جميعاً, فكان أحدهما أشد إجتهاداً من الآخر, ورأى في المنام: أن "المجتهد" تأخّر دخوله الى الجنة وقد استشهد, وأن الآخر قُدم عليه وقد توفي. فأصبح طلحة يحدث الناس, فعجبوا لذلك, فبلغ ذلك رسول الله فقال: " من أي ذلك تعجبون؟ قالوا: يا رسول الله, هذا كان أشدّ الرجلين اجتهاداً ثمّ استشهد ودخل هذا الآخر قبله الجنّة ..." (2) الحديث, والمراد بالإجتهاد, الأجتهاد في معرفة الدين والإلتزام به على وجه العموم دون حصر أو تقييد. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً, ككثرتها في إستعمال لفظ الجهاد أيضاً بيانا وتفصيلا لما أجمل في القرآن الكريم(3). أما حديث الباب, الذي يحدد مجال معيّن للإجتهاد, ويرتب عليه صواباً وخطأ, وأجراً وثواباً, فهو حديث عمرو بن العاص المتفق عليه, أنه سمع رسول الله يقول: " إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران, واذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر"(4).

 

(1)            الإمام: المسند, ج3/ص352.

(2)            محمد بن يزيد, أبو عبدالله القزويني, ابن ماجة: السنن, حققه محمد فؤاد عبدالباقي, دار الحديث, القاهرة, 1414 هـ - 1994 م. كتاب تعبير الرؤيا, باب تعبير الرؤيا, ج2 / ص1293 – 1294. وانظر أيضاً المسند للإمام أحمد, ج1 / ص163, ج 2 / ص 323 – 363.

(3)            انظر عموما, استعمالات الجهاد, في الكتاب والأبواب المخصصة لع في كتب الفقه والحديث.

(4)            البخاري: كتاب الإعتصام بالكتاب والسنة, باب أجر الحاكم إذا اجتهد فأصاب أو أخطأ, ج13/ ص318.

 

 

 


 

ولعل الإختلاف على هذا الحديث بين الائمة كان غرضه إبطال "الإجتهاد بالرأي" تمشياً مع مذهبه الظاهري الذي يرفض الرأي والقياس, ويحصر الأدلة في ثلاثة, كتاب وسنّة وإجماع (والإجماع المعتبر هو إجماع الصحابة). حتى اذا لم يُسلَّم له في ذلك الإبطال, على الرغم من قول البخاري وابن الجوزي في الحديث[3] , أَخَذَهُ "أصحاب الرأي عن شعبة, وطاروا به كل مطار وأشاعوه في الدنيا"[4]

والبديهي تأكيده ان الاختلاف هذا رئيسي في فهم ما آلت اليه قضية تأصيل هذا الحديث والعمل به بين سندات الإجتهاد ومطرفة التجديد الا أن الشبار يخلص الى القول أن الإجتهاد يكون في الالتزام بتعاليم الدين جملة, فهماً واستيعاباً, عملاً وسلوكاً وذلك مدخلاً الى حركة دائبة في المجتمع خرجت من أجيال القرون الثلاثة الأولى السلف قبل أن يركب الأمة داء الجمود والجهل العضال. ويقول الشبار أنّ أهمّ ما يمكن استخلاصه من هذا الاختلاف هو ان حركة الاجتهاد في مباحث أصول الفقه و عليه أكد الانفصام عن حركة الواقع والايغال في التجريد حتى أصبح أو كاد من العلوم النظرية المجردة. علماً أنّ توظيف العصر النبوي للاجتهاد في الحكم الشرعي يستلزم من المجتهد شروط العلم والأهلية, من غير تحديد لها , أو تنصيص عليها في ذلك العصر, وعليه فإنّ الفكر الأصولي- كما في كل العلوم الشرعية تقريباً – في عصر التدوين, بدأ بالتنصيص على تلك الشروط وتحديدها, للتوالى الإضافات والتفريعات بعد ذلك من مقلّ ومكثر, وميسر ومعسر إلى حد الإعجاز كما سيأتي بيانه. والشيء نفسه حدث للحكم الشرعي إذ طال الأخذ والرد, حول قطعيته وظنيته, وكونه من الأمور العملية أو الاعتقادية أو العقلية وغيرها [5].

أما تعريفات الأصوليين من جهة موضوع الاجتهاد (الحكم الشرعي,الظني,أو العملي,أو العقلي, و غيره)فأضحى يبحث عن حلول في هذا المحور ويعرض الشبار لأهمّ هذه التعريفات ونوجزها بالأتي:

(أ‌)               تعريف الإمام الشافعي الذي  أعطى تعريفاً منهجياً مستوعباً ركز فيه على الآلة الاجرائية العملية الا أنه أكثر من التعريفات النظرية بحسب الشبار لما طرح على لسان "محاوره" سؤال : "كيف يكون الاجتهاد؟" قال : "إنّ الله جل ثناؤه منّ على العباد بعقول فدلهم بها على الفرق بين المختلف وهداهم السبيل إلى الحق نصاُ ودلالةً" وقال ممثلاً : "ضرب لهم البيت الحرام وأمرهم بالتوجه إليه إذا رأوه, وتأخيه إذا غابوا عنه, وخلق لهم سماء وأرضاً وشمساً ونجوماً وبحاراً ورياحاً (1).

وعليه فان الاجتهاد والقياس عند الشافعي "هما اسمان لمعنى واحد" (2) . فلقد حرص الشافعي على جعل الاجتهاد قياساً, و الاحتراز منه على جعله فيما دون القياس من الأصول خاصة بأصول الاستحسان المجرد عن الدليل.

(ب‌)          تعريف الامام الغزالي – وإن لم يصرح بالاسم- قال : "وقال بعض الفقهاء: القياس هو الاجتهاد, وهو خطأ لأنّ الاجتهاد أعمّ من القياس, لأنه قد يكون بالنظر في العمومات, ودقائق الألفاظ وسائر طريق الادلّة سوى القياس, ثم إنه لا ينبئ في عرف العلماء إلا عن بذل المجتهد وسعه في طلب الاحكم, ولا يطلق إلا على من يجهد نفسه ويستفرغ الوسع (...) ولا ينبئ هذا عن خصوص معنى القياس, بل عن الجهد الذي هو حال القياس فقط. (1)

(ج)   تعريف ابن حزم الذي اتفق مع الغزالي في أنّ الاجتهاد هو طلب الحكم الشرعي وقال : "الاجتهاد في الشريعة هو استنفاذ الطاقة في طلب حكم النازلة حيث يوجد ذلك الحكم. (2) وعند الغزالي , قال : "صار اللفظ (الاجتهاد) في عرف العلماء مخصوصاً ببذل المجتهد وسعه في طلب العلم بأحكام الشريعة" (3) . قال الغزالي : الركن الثالث – المجتهد فيه- : "هو كل حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي" (4) واحتراز بالشرعي عم العقلي ومسائل الكلام.

(د)   تعريف الرازي الذي أوضح أنّ الاجتهاد في عرف الفقهاء هو : "استفراغ الوسع في النظر فيما لا يلحقه فيه لوم مع استفراغ الوسع فيه" [6] . وممن نص على "طلب الظن", وينحى الآمدي هذا المنحى و يقول هو : "استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحس من النفس العجز عن المزيد فيه"[7] .

(هـ)تعريف الزركشي ومساهمته بحسب الشبارنوعية وجديرة بالاعتبار,  مع تنصيصه على كون تعريف الحكم الشرعي عملياً. قال : "بذل الوسع في نيل حكم شرعي عملي بطريق الاستنباط", قال : "وخرج بالشرعي اللغوي والعقلي والحسي, فلا يسمى عند الفقهاء مجتهداً [8]

ويربط أمير بادشاه مفهوم "الفقيه" باعتباره المجتهد بالمفهوم نفسه ويعرفه ب "بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني", قال شارحه في التيسير : "فبذلها  من غيره كالعامي خارج عن الاجتهاد.

فمفهوم «الفقيه» باعتباره المجتهد معمول به في كثير من المراجع أي «بذل الطاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعي ظني»، قال شارحه في التيسير: «فبذلها من غيره كالعامي خارج عن الاجتهاد. وخرج أيضاً بذل طاقة الفقيه في غير حكم العبادة مثلاً. وبذله طاقته في غير حكم شرعي من حسي أو عقلي، وإنما قال ظني لأن القطعي لا اجتهاد فيه»([9]). ويؤكد صاحب التحرير على لفظ «الفقيه» ويعتبر أن «(نفي الحاجة إلى قيد الفقيه للتلازم بينه وبين الاجتهاد) لأنه لا يصير فقيهاً إلا به، ولذا لم يذكره الغزالي والآمدي، (سهو، لأن المذكور بذل الطاقة لا الاجتهاد. ويتصور) بذل الطاقة (من غيره) أي: الفقيه (في طلب حكم) شرعي»([10]).

ولقد اختلف الفقهاء في محور ما جاء الاجتهاد به ومحوره فإن كانت «النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية، فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها، والمخطئ في القطعيات آثم، والقطعيات ثلاثة أقسام: كلامية وأصولية وفقهية، أما الكلامية: (فعنى بها) العقليات المحضة، والحق فيها واحد، ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم، ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته(...) وإما الأصولية: (فعنى بها) كون الإجماع حجة، وكون القياس حجة، وكون خبر الواحد حجة(...)وأما الفقهية: فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وتحريم الزنا والقتل. ذهب الشهرستاني إلى أن «عامة أهل الأصول على أن الناظر في المسائل الأصولية والأحكام العقلية اليقينية القطعية يجب أن يكون متعين الإصابة، فالمصيب فيها واحد بعينه»([11]). وعند الزركشي أن «ما يكون الخطأ فيها (العقليات) مانعاً من معرفة الله ورسوله فهذه الحق فيها واحد، فمن أصابه أصاب الحق، ومن أخطأه فقيل: يكفر»([12]).

وعليه يصبح ضابط الاجتهاد في المجالات المذكورة معياران: الأول: (القطعية والظنية)، الثاني: (الصواب والخطأ). ويقول الشبارإذا كان الثاني متعلقاً بالأول، فهماً متحققان في المعرفة الدينية ككل، لا في المباحث الفقهية وحدها، ولكل مجال منهجيته في النظر والاستدلال والاستنباط.

وعليه يكون الاجتهاد ذو مفهومين فالاجتهاد العقلي: وهو ما كانت الحجية الثابتة لمصادره عقلية محضة، غير قابلة للجعل الشرعي، كالمستقلات العقلية، وقواعد لزوم دفع الضرر المحتمل أما«الاجتهاد الشرعي: وهو ما احتاج إلى جعل حجيته من الحجج الشرعية، ويدخل ضمن هذا القسم، الإجماع والقياس والاستحسان والاستصلاح والعرف والاستصحاب وغيرها»([13]).

ومن الفقهاء من قسم الاجتهاد إلى ثلاثة أنواع:

أ«الاجتهاد البياني: لبيان الأحكام الشرعية من نصوص الشارع.

ب- الاجتهاد القياسي: وذلك لوضع الأحكام الشرعية للوقائع الحادثة مما ليس فيها كتاب ولا سنة، بالقياس على ما في نصوص الشارع من أحكام.

ج- الاجتهاد الاستصلاحي: وذلك لوضع الأحكام الشرعية أيضاً للوقائع الحادثة مما ليس فيه كتاب ولا سنة بالرأي المبني على قاعدة الاستصلاح.

وقد اعترض على هذا التقسيم وناقشه تقي الحكيم من نواح ثلاث، وقال أن ما ورد فيها: غير جامع لشرائط القسمة المنطقية، وغير مستوعب، فهو لم يشمل الاجتهاد الاستحساني ونحوه من أدلة الاستنباط التي اعتمدها الفقهاء وأبلغها بعضهم تسعة عشر نوعاً وعليه فأن القياس ليس في جميع أقسامه قسماً للاجتهاد البياني، بل في بعضها هو قسم منه كالقياس المنصوص العلة، والاستصلاح داخل هو الآخر في الاجتهاد البياني (حسب تعريف الدواليبي له).

أما التفرقة بين طريقة الاجتهاد البياني والطريقتين الأخريين،فواضح باعتبار الأولى بياناً للأحكام الشرعية، والثانية والثالثة وضعا لهما، ولازم ذلك اعتبار المجتهد مشرعاً..» ([14]).

 

 

المبحث الثاني: في الاجتهاد والرأي

يقول الشبار في هذا الباب أن الخلاف بين مسألة الاجتهاد والرأي قد حسم لكن ذيوله ما تزال ممتدة إلى فكرنا المعاصرولعل أهم ما يعرضه الشبار للفقهاء وأوائل المحققين في المسألة هو كتابات ابن عبدالبر، الذي عقد باباً سماه: «باب اجتهاد الرأي على الأصول عند عدم النصوص حين نزول النازلة» ذكر فيه العديد من الآثار والأحاديث الواردة عن الصحابة في «اجتهاد الرأي». قال في آخره: «هذا باب يتسع فيه القول جداً، وقد ذكرنا منه كفاية، وقد جاء عن الصحابة رضي الله عنهم من اجتهاد الرأي والقول بالقياس على الأصول عند عدمها ما يطول ذكره». ولقد نقل ابن عبدالبر عن طوائف من العلماء أن الرأي المقصود إليه بالذم والعيب في هذه الآثار المذكورة أنه  البدع المخالفة للسنن في الاعتقاد، كرأي جهم وسائر مذاهب أهل الكلام([15])."

ويقول أيضا" أنه:

· الرأي المذموم المعيب المهجور الذي لا يحل النظر فيه ولا الاشتغال به، الرأي المبتدع وشبهه من ضروب البدع.

· وهو (عند جمهور أهل العلم) القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات، ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض، دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها، فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل وفُرعت وشُقت قبل أن تقع، وتُكلم فيها قبل أن تكون»([16]).

أما العلامة ابن القيّم، في مقاربته لمسألة الاجتهاد و الرأي يرى أنه: «لا تعارض بحمد الله بين هذه الآثار عن السادة الأخيار، بل كلها حق وكل منها له وجه، وهذا إنما يتبين بالفرق بين الرأي الباطل الذي ليس من الدين والرأي الحق الذي لا مندوحة عنه لأحد المجتهدين».

 وقال في أقسام الرأي: «وإذا عرف هذا فالرأي ثلاثة أقسام:

أ- رأي باطل بلا ريب، ورأي صحيح.

ب- ورأي هو موضع الاشتباه. والأقسام الثلاثة قد أشار إليها السلف، فاستعملوا الرأي الصحيح وعملوا به وأفتوا به وسوغوا القول به. وذموا الباطل ومنعوا من العمل والفتيا والقضاء به وأطلقوا ألسنتهم بذمه وذم أهله.

ج- والقسم الثالث سوغوا العلم والفتيا والقضاء به عند الاضطرار إليه حيث لا يوجد منه بد ولم يلزموا أحداً العمل به، ولم يحرموا مخالفته ولا جعلوا مخالفه مخالفاً للدين، بل غايته أنهم خيروا بين قبوله ورده».

 أما أنواع الرأي الباطل فهي:

1- الرأي المخالف للنص...، الكلام في الدين بالحرص والظن مع التفريط والتقصير في معرفة النصوص وفهمها واستنباط الأحكام منها.

2- الرأي المتضمن تعطيل أسماء الرب وصفاته....

3- الرأي الذي أحدثت به البدع وغيرت به السنن وعم به البلاء. ما ذكره أبو عمر بن عبدالبر ... أنه القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ الأغلوطات والمعضلات...»

وذكر من أنواع الرأي المحمود أربعة أنواع:

1-   «رأي أفقه الأمة وأبر الأمة قلوباً... (الصحابة)...

2-   الرأي الذي يفسر النصوص ويبين وجه الدلالة منها...

3-   الرأي الذي تواطأت عليه الأمة وتلقاه خلفهم عن سلفهم... فلا يكون إلا صواباً...

4-   أن يكون بعد طلب علم الواقعة من القرآن، فإن لم يجدها... ففي السنة، فإن لم يجدها... فبما قضى به الخلفاء الراشدون أو اثنان منهم أو واحد، فإن لم يجده بما قال به الصحابة، اجتهد رأيه ونظر إلى أقرب ذلك من كتاب الله وسنة رسوله r وأقضية أصحابه. فهذا هو الرأي الذي سوغه الصحابة، واستعملوه وأقر بعضهم بعضاً عليه»([17]). أحدهما: محمود جار على هدي الكتاب والسنة وإجماع علماء الأمة. والآخر: مذموم مخالف لما تقدم، وهو خارج عن دائرة البحث وليس مراداً([18]).

وللإمام الشافعي رأي مميز في مقاربة الاجتهاد بالرأي ألايذهب إلى درجة المطابقة بينهما بحيث يعبر عن أحدهما بالآخر، كما في حديثه عن شروط القياس، التي هي شروط للمجتهد كذلك.

ويقول الشبار أن اسهامات المنهج الشافعي في الرسالةمميزة وذلك لمحاولته الجمع بين العمل بالنص الثابت، والعمل بالعقل المتحرك. وقد ذهب كثير ممن تحدث عن الرسالة، إلى أن من أغراضها في ضبط الأصول وتقنينها، التأليف بين اتجاهي الثقافة الإسلامية آنذاك؛ «اتجاه الرأي»، و«اتجاه الحديث»([19]). فكما عاب على حملة الآثار عدم عقل المعاني، عاب أيضاً على أهل الرأي عدم إسناد ما يعقلون. وكان القياس عنده الأداة المناسبة للجمع بين فقه الآثار وعقل المعاني، بين ضبط العقل وإسناد الفقه، بالأصول الشرعية نصاً أو دلالة.

ويسمح الشافعي للعقل بأن يجتهد في طلب الحق، لكن في إطار الدلائل المنصوصة أو المستفادة من النصوص. فدائرة الرأي، رأي المجتهد الذي يتوصل إليه باجتهاده، والذي هو ملزم له في حق نفسه، وقد يكون ملزماً لغيره ممن يستفتيه وقد لا يكون.أما اعتبار الشافعي للقياس اجتهاداً، هو احتراز منه عن اعتبار الاستحسان اجتهاداً كما تقدم، وعلى الرغم من كونه خصص كتاباً في «الأم» لإبطال الاستحسان فإنه إنما يبطله بالشرط الذي ذكرناه في الرأي المذموم، وعلى ذلك تحمل أقواله فيه بأنه «تلذذ» أو «تشريع». وإلا، فإنه في أحايين كثيرة يذكر الاستحسان مشروطاً تارة بالقياس نفسه، وتارة بالمستند الشرعي، وأن يكون صاحبه من أهل العلم.

لقد درج التأليف في الفكر الأصولي على التمييز بين الاجتهاد و الرأي. بل أكثر من هذا نجد الحرص من المتأخرين على تأكيد شمول الاجتهاد لطرق الاستنباط كافة، وتعميمه على سائر الواقعات المنصوصة وغير المنصوصة. فـ «الاجتهاد... كما يشمل بذل الجهد فيما لا نص فيه للوصول إلى الحكم عن طريق القياس أو الاستحسان أو المصلحة المرسلة أو الاستصحاب، أو أي طريق من طرق الاستنباط التي نصبت أمارة للدلالة على الحكم، فإنه يشمل بذل الجهد في حالة وجود النص للوصول إلى الحكم الشرعي الذي دل عليه ذلك النص. أما القياس فهو استفراغ الوسع فيما لا نص فيه لإلحاقه بما فيه نص، والتسوية بينهما في الحكم إذا ثبت اشتراك الواقعتين في العلة. فالاجتهاد أعم من القياس، وهكذا كان كل قياس اجتهاداً ولا عكس. وإن مجال الاجتهاد ما يعرض للمكلف من وقائع سواء أكانت في حدود المنصوص أم في حدود غير المنصوص، و[ليس] كذلك القياس، فإن مجاله الوقائع التي لم ترد فيها النصوص»([20]).

وإذا كان الاجتهاد بالرأي قد ظهر في التشريع الإسلامي في وقت مبكر جداً([21])، المراد ظهوره منذ العصر النبوي، استعمله الرسول r واستعمله الصحابة في كثير من القضايا الاجتهادية فـ «الصحابة رضي الله عنهم هم الذين فتحوا باب الاجتهاد بالرأي، ولم يخصوه بنوع معين... فقد وقع فيما فيه نص وفيما لا نص فيه»، ، وقد «كان في العصر الذي عاش فيه النبي r أصل للتشريع هو الرأي» وقال المزني: «الفقهاء من عصر رسول الله r إلى يومنا وهلم جراً استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم» وذلك إلى جانب «الكتاب والسنة».

ويختلف منهج الاجتهاد بالرأي عن منهج الظاهرية [الذين يحتكمون إلى ظاهر النص] (...)، كما يختلف عن منهج الفيلسوف الذي يحتكم إلى الفكر المحض أو منطق العقل المجرد، فكل من المنهج اللغوي المحض والمنهج العقلي المحض لا يتفق مع طبيعة التشريع بما هو نصوص ودلالات وإرادة وروح ومقاصد»([22]).

وأخيرا" يقول الشبار لقد استُعمل الاجتهاد بإزاء مصطلحات أخرى كالتفسير والتأويل أما المفهومين فهما:

أ- التأويل، فهو «من صميم الاجتهاد بالرأي المستند إلى المناهج الأصولية، وهو صرف اللفظ اللغوي الظاهر المتبادر إلى معنى آخر بالاستناد إلى دليل من نص أو قاعدة عامة أو من حكمة التشريع، يجعل المعنى المؤول راجحاً بالدليل. والتأويل من صلب الاجتهاد بالرأي في نطاق النص بما هو جهد عقلي ينصب على تفهم المراد من النص...» ([23]).

ب- فالتأويل والتفسير كلاهما ضرب من أضرب الاجتهاد رغم تفريق الاصطلاح بينهما، ذلك أن «التفسير تبيين المراد من الكلام على سبيل القطع، أما التأويل فإنه تبيين المراد من الكلام على سبيل الظن، ولهذا يحرم التفسير بالرأي دون التأويل»([24]).

 

 

 

 

                                               



(1)   الاجتهاد والتجديد في الفكر الاسلامي المعاصر دراسة في الأسس المرجعية والمنهجية , المعهد العالمي للفكر الاسلامي , الطبعة الأولى 2007

([2]) القرضاوي: الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، ص 114 إلى 133.

[3] سند الحديث محل الخلاف وهو كما في جامع الترمذي: "حدثنا هناد, حدثنا وكيع عن شعبة عن أبي عون عن الحارث عن عمر عن رجال من أصحاب معاذ" قال البخاري في تاريخه: "الحارث بن عمرو عن أصحاب معاذ, وعنه أبي عون لا يصح, ولا يعرف إلا بهذا" وقال ابن حزم: "لا يصح لأن الحارث مجهول وشيوخه لا يعرفون" "ثم هو عن رجال من أهل حمص لا يدرى من هم"... وقال ابن الجوزي في العلل المتناهية: "لا يصح وإن كان الفقهاء كلهم يذكرونه". انظر: المباركفوري تحفة الأحوذي, ج4 / ص556 وما بعدها.

(1)               [4] ابن حزم: الإحكام, ج6 / ص35.

 

[5]

[6] محمد بن عمر , فخر الدين الرازي : المحصول في علم أصول الفقه. دار الكتب العلمية , ط1 / 1408 هـ - 1988 م, ج2 / ص 489.

[7]  علي بن محمد الآمدي : الإحكام في أصول الأحكام. تحقيق سيد الجميلي, دار الكتاب العربي, ط2 / 1406 ه

[8]  لا أدري ما المانع من تسميته مجتهداً في مجاله, وبعرف أهل اختصاصه, خاصة اذا استجمع شروط فنّه.

([9]) محمد أمين أمير بادشاه الحسيني الحنفي: تيسير التحرير، شرح كتاب التحرير في أصول الفقه الجامع بين اصطلاحي الحنفية والشافعية، لمحمد كمال الدين، ابن همام الإسكندري. دار الكتب العلمية، بيروت، 1403هـ- 1983م، ج4/ص 179.

([10]) ابن همام الإسكندري: كتاب التحرير، ج4/ص 179. (ما بين هلالين كلام المؤلف والباقي للشارح).

([11]) محمد عبدالكريم الشهرستاني: الملل والنحل (تحقيق) محمد الوكيل، دار الفكر، ص 202.

([12]) الشوكاني: إرشاد الفحول، ص 433.

([13]) انظره، في: وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، ج2/ ص 1042.

([14]) انظر في: وهبة الزحيلي، أصول الفقه الإسلامي، ج2/ص 1041.

([15]) المقصود المذاهب المخالفة للسنن، لا مطلقها.

([16]) ابن عبدالبر: جامع بيان العلم، ج2/ص 162 إلى 173.

([17]) ابن القيّم: إعلام الموقعين، ج1/ ص 66 إلى 85.

([18]) يذهب ابن حزم إلى رد الرأي وإبطاله جملة وتفصيلاً دون تمييز بين محمود ومذموم، قال في تعريفه: «والرأي ما تخيلته النفس صواباً دون برهان، ولا يجوز الحكم به أصلاً»، الإحكام، ج1/ ص 45، وهو مخالف لما عليه الجمهور.

([19]) أضع الاتجاهين بين قوسين تحفظاً من مبالغات البعض في التمييز «الحدي» بينهما وكأنهما اتجاهان لا علاقة لأحدهما بالآخر، ولكل منهما أسسه المرجعية والمنهجية. والواقع خلاف ذلك تماماً، فهذا الإمام أبو حنيفة الذي تنسب إليه «إمامة» أهل الرأي، يقدم الحديث الضعيف على الرأي والقياس في كثير من المسائل، وأجمع أصحابه على أن ذلك من مذهبه. انظر ابن القيّم في إعلام الموقعين، ج1/ص 77، وانظر أيضاً ابن عبدالبر في جامع بيان العلم، ج2/ ص 182- 183. والكتب التي ترجمت له عموماً قديماً وحديثاً. وظاهرة الغلو في التمسك بالرأي أو بالآثار موجودة عند الأتباع لا عند الأئمة الأعلام. والمنهج الإسلامي في المعرفة عموماً لا يمكنه أن يقوم إلا على دعامتين أساسيتين، نص صحيح، وعقل صريح كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.

([20]) محمد أديب صالح: تفسير النصوص في الفقه الإسلامي، المكتب الإسلامي، ط3/ 1404هـ- 1984م، ج1/ص 81.

([21]) مصطفى عبدالرزاق: تمهيد لتاريخ الفلسفة، ص 146. وانظر فيه نماذج من الاجتهاد بالرأي ص 138 إلى 146.

([22]) الدريني: المناهج الأصولية، ص 30.

([23]) الدريني: المناهج الأصولية، ص 18، وانظر فيه خصائص هذا التأويل وشروطه، ص 186 وما بعدها، وص 204 وما بعدها.

([24]) أديب صالح: تفسير النصوص، ج1/ص 366.

 الدريني: المناهج الأصولية، ص 9



[i]

Maan Barazy

Certified Shari'a Adviser and Auditor (CSAA- AAOIFI Certified) - MA Islamic Comparative Jurisprudence  - BS International Economics 

Managing Partner And CEO of Data and Investment Consult-Lebanon – The Centre For Islamic Finance - Consultant Researcher and Lecturer


--
--
You received this message because you are subscribed to the Google Groups "Kantakji Group" group.
To post to this group, send email to kantakjigroup@googlegroups.com
To unsubscribe from this group لفك الاشتراك من المجموعة أرسل للعنوان التالي رسالة فارغة, send email to kantakjigroup+unsubscribe@googlegroups.com
For more options, visit this group at
http://groups.google.com/group/kantakjigroup?hl=en
سياسة النشر في المجموعة:
ترك ما عارض أهل السنة والجماعة... الاكتفاء بأمور ذات علاقة بالاقتصاد الإسلامي وعلومه ولو بالشيء البسيط، ويستثنى من هذا مايتعلق بالشأن العام على مستوى الأمة... عدم ذكر ما يتعلق بشخص طبيعي أو اعتباري بعينه باستثناء الأمر العام الذي يهم عامة المسلمين... تمرير بعض الأشياء الخفيفة المسلية ضمن قواعد الأدب وخاصة منها التي تأتي من أعضاء لا يشاركون عادة، والقصد من ذلك تشجيعهم على التفاعل الإيجابي... ترك المديح الشخصي...إن كل المقالات والآراء المنشورة تُعبر عن رأي أصحابها، ولا تعبّر عن رأي إدارة المجموعة بالضرورة.
 
 
 

No comments:

Post a Comment