Thursday 13 October 2011

{Kantakji Group}. Add '10257' الاقتصاد السوري بين تجاذبات القرار السياسي

 

 

إعداد د.محمد وائل سعيد حبش

دكتوراه في الأسواق المالية

الاقتصاد الســـوري بين تجاذبات القرار السياسي :

 

13-10-2011

الاقتصاد بين ضرورات التحول و صراعات التغيير :

 

إن العدالة الاجتماعية قد أثبتت مرة أخرى أنها صمام الأمان في أي نظام اجتماعي فإذا أخذنا لمحة و نظرة سريعة على أشكال الأنظمة الاقتصادية العالمية من رأسمالية إلى شيوعية إلى رأسمالية ذات توجه اشتراكي لوجدنا أن أكثر الدول استقراراً هي الدول التي تتحقق فيها العدالة الاجتماعية مداها الأقصى وهذه الأمثلة واضحة في البلدان الأوروبية الاسكندنافية ، فقد تساقطت جميع الأيدولوجيات الاقتصادية أمام إغفال العدالة الاجتماعية سواء في الشرق أو الغرب كما تبخرت الإنجازات الاقتصادية في الدولة السورية تحت ضربات موجعة من شبكات الفساد الاقتصادي و الحكومي المحلي والذي أدى إلى تآكل و تشوه النظام الاقتصادي السوري فعلى الرغم من تغيير النظام الاقتصادي السوري من الإيديولوجية الاشتراكية إلى اقتصاد السوق الاجتماعي أي بمعنى آخر إلى الإيديولوجية الرأسمالية ذات التوجه الاشتراكي إلا أنها لم تستطيع أن تترجم هذا التحول في الإيدولوجيا إلى الواقع بوجود القيادات السياسية الاقتصادية القديمة التي تؤمن بسياسة المركز و تهميش الأطراف فأعادت جزءاً من هذه القيادات إنتاج أنفسها في الشكل دون الجوهر مما خلق مركز جديداً داخل النظام الاقتصادي الحكومي القديم إنما بمظهر أكثر حداثة و بشراهة مادية أعنف من الشكل القديم .

هذا التباين في الشكلين قد ولد صراعاً داخل النظام نفسه وصراعاً ثانياً بين النظام واتجاهات سياسية اقتصادية أخرى لم تتلاءم و تلتقي مع الشكل الجديد للنظام الاقتصادي .

أمام هذه الصراعات السياسية المحلية ذات البعد الإقليمي و الدولي يتم التعامل مع الاقتصاد الوطني كورقة ضغط من كل الأطراف السياسية المتنازعة لحسم عدداً من المعادلات السياسية التي تتبلور في المنطقة والتي ستكون عنوان العقود القادمة .

وقد أشرنا سابقاً إلى ضرورة إيجاد ما أسميته " العلمانية الاقتصادية" أي فصل الاقتصاد عن رجال السياسة و ألا يكون الاقتصاد الوطني مهندساً  ومسيساً حسب الخلفيات السياسية للمدراء و الاقتصاديين بل يكون الاقتصاد ذو نزعة تجارية يهدف إلى زيادة الثروة الوطنية ورفع المستوى المعيشي للمواطن بغض النظر عن انتماءاته العرقية أو الدينية أو السياسية .

خطورة هذه المسألة تتبلور في محاولات بعض الاتجاهات المعارضة إلى تغذية نزعة تدمير الاقتصاد الوطني كوسيلة للقضاء على النظام السياسي الحالي وعلى الرغم من أن " البرجوازية الحكومية " كما أطلقت عليها في بحث سابق تعيش في ظل النظام السياسي القائم إلا أن الاقتصاد يعني جميع المواطنين ولا يمثل فقط السلطة الحالية كما يتم تصويره ، بل أكثر من ذلك فإن تدمير الاقتصاد الوطني  لا يعني أن يؤدي إلى  زوال النظام السياسي القائم الحالي إلا أنه يؤدي بالضرورة إلى تدمير المواطن السوري و الذي هو هدف الإصلاحات و الثورات .

 

الصراع الدولي و قرار تعليق المستوردات :

 

ويناء على هذه المقدمة فإن من الصعب الاقتناع أن العقوبات الأمريكية والأوروبية الحالية على الاقتصاد السوري تستهدف فقط النظام السياسي القائم دون الشعب السوري بل هي ذريعة سياسية دولية تستغل مطالب داخلية مشروعية للشعب السوري لقهر وتحطيم المواطن السوري وجعل خياراته و مطالبه بالمواطنة والديمقراطية وبنظام اقتصادي أكثر عدالة اجتماعياً مأسورة ضمن خط المصالح الغربية في إبقاء السيطرة على منطقة الشرق الأوسط .فالمواطن السوري مازال يتمتع بذاكرة تاريخية تجعله يقع في انفصام سياسي تاريخي عندما يرى دول استعمارية وهي بريطانيا و فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية تلعب الآن وجه الراعي على مصالح الشعب السوري في مفارقة يتولد عنها الشكوك الكبيرة في الجدوى و نوع المصالح التي تهدف إليها هذه الدول في ركوب أمواج الربيع العربي  ، فالتدخل الدولي هو خيار لا يمكن التحكم بنتائجه بسبب تجاذب مصالح العديد من الدول في التدخل الدولي وتفكير تلك الدول في مصالحها الاقتصادية و الاستراتيجية أولاً و إمكانية توظيفها في الوضع الاقتصادي المالي العالمي والذي يشهد ركوداً و تراجعاً و مصيراً مجهولاً

هذه الضغوطات الدولية الشديدة على النظام السوري والتي ترجمت باتخاذ عدد من العقوبات الاقتصادية المالية على النظام المالي والنقدي السوري قد أدت محلياً إلى التسرع باتخاذ قرار تجميد المستوردات التي رسومها أعلى من 5 % وعلى الرغم من التراجع عنه فيما بعد فقد أبرز مرة أخرى عجز البراجماتية التجارية و الصناعية السورية على التعامل مع الأزمة السياسية الاقتصادية الحالية بصورة وطنية و أنها تتحالف مع النظام السياسي الذي يؤمن مصالحها بغض النظر إن كان وطنياً أم لا فارتفاع الأسعار الفاحش خلال الأيام التي أعقبت القرار قد برهنت بالتجربة بأن الطبقة التجارية والصناعية النافذة على الأقل -كي لا نعمم  – تتعامل مع أي قرار اقتصادي سيادي كان أم وطني من منظور نفعي شخصي مباشر و بالتالي فإنها أثبتت عجزها عن نقل الاقتصاد إلى مرحلة متقدمة أكثر من حيث المضمون فلم يفطن هؤلاء أن رفع أسعار موادهم سيدفع بالآخرين إلى رفع سلعهم وبالتالي ماسيأخذونه في اليد اليمنى سيدفعونه باليد اليسرى لكن أسلوب الانتهازية الطارىء على الثقافة السورية جعل تدبير وتحليل النتائج لأي قرار اقتصادي في مرحلة متأخرة عن انتهاز الفرص مهما كانت ألوانها .

ولعل من إيجابيات فشل قرار تعليق المستوردات أنه جعل الحكومة تفطن إلى أهمية تبني استراتيجية اقتصادية هجومية بدلاً من استراتيجية دفاعية بحتة تمثلت بقرار يهدف إلى الحفاظ على المدخرات من العملة الصعبة و الذهب إلى أطول فترة ممكنة أي استخدام التكتيك الدفاعي للقلاع المحاصرة إلا أن هذا القرار قد حمل بذور فشله منذ صدوره أمام تضارب المصالح الواضح بين استراتيجية الحكومة و مصالح التجار أولاً و المواطن السوري ثانياً ولذلك بدأت الحكومة بالتوجه إلى اتحاد المصدرين و هيئة تنمية الصادرات وغرف الصناعة من أجل انتاج ما يمكن الاستغناء عن استيراده و تصدير ما يلقى استهلاكاً في الخارج لتأمين العملة الصعبة  ، و أما القطاع العام الحكومي فلم يعد يكفي التكلم عن إصلاحه بل تهيئته لتصدير منتجاته للخارج و إحدى الاستراتيجيات لدفع القطاع العام تتمثل بعملية " الخصخصة العامة " وهي كما عرفناها سابقاً بامتلاك المواطنين من عمال وغيرهم أسهماً في هذه الشركات فتكون جزءاً من هذه الشركات مملوكاً بملكية سهمية بدلاً من ملكية على الشيوع وأما الاستراتيجية الثانية فتتمثل بدخول شركات أجنبية بشراكات مع القطاع الحكومي الإنتاجي لفتح منافذ تصديرية و تأمين حاجات البلاد من العملات الدولية ورفع مستوى معيشة المواطن أمام العجز الحالي عن بيع العائدات النفطية والتي تشكل ثلث عائدات الموازنة العامة للدولة .

كما أن المشاكل الفورية لقرار وقف الاستيراد أرسل رسالة فورية لصاحب القرار بأن الهدف من هكذا قرار هو  الاحتفاظ بالاحتياطات النقدية  فعلياً وليس منع الاستيراد فكان إلغاء القرار و استبداله بوقف البنك المركزي لتمويل المستوردات و استخدام الاحتياطات الحالية المتبقية كأداة نقدية لإعادة موازنة العرض والطلب على العملة السورية في حال حدوث خلل بين الطرفين و لتمويل السلع المستوردة الاستراتيجية فقط .خاصة أن معظم المستوردين يمتلكون حسابات خارجية من العملات الأجنبية والتي تسمح لهم بسداد المستوردات إلا أن السبب الرئيسي والمباشر للسواد الأعظم من المستوردين للاستيراد عن طريق المصارف السورية هو الاستفادة بين فرق سعر الصرف الرسمي وسعر الصرف في السوق السوداء ، هذا الفرق الذي من الممكن أن يتسع على المدى المتوسط ولكن ضمن حدود متوقعة آخذين بعين الاعتبار أن معظم الحوالات الخارجية لن تكون بالدولار الأمريكي بسبب العقوبات الأمريكية مما سيخفض من الطلب على الدولار لتمويل المستوردات السورية .

 

صحوة الاقتصاد من داخل  الأزمة :

 

لعل في هذه الأزمة السياسية التي هزت البلاد فرصة لتصحيح الخلل البنيوي في الاقتصاد السوري فالسنوات التي اعتقدنا فيها أن القطاع الزراعي هو الأقل أهمية وتوليداً للثروة وجدنا الاقتصاد العالمي يقع في مصيدة أزمة غذائية و ارتفاع أسعارها بالشكل الذي أدى إلى تآكل قيمة إنتاجها من بقية القطاعات كما أن دول مثل سوريا في ظل صراعات سياسية دائمة بحكم موقعها الجغرافي تحتاج إلى تحقيق هدف الاكتفاء الذاتي دون الالتفات إلى الكلفة النسبية المقارنة للسلعة الزراعية مع الدول المصدرة فقيمة الاكتفاء الذاتي على المستوى الوطني الاستراتيجي تتجاوز فرق الكلف الإنتاجية للسلع الزراعية مع الدول الزراعية الأخرى ولعل التقرير الدولي لمنظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة والتي حذرت من أزمة غذائية عالمية طاحنة ابتداء من عام 2011 إن لم يتم زيادة الإنتاج من المحاصيل الزراعية الرئيسية وخاصة القمح والتي تراجعت بسبب الظروف المناخية السيئة و ارتفاع أسعار المشتقات النفطية .

أما بالنسبة للقطاع الخدمي الريعي فأكثر الدول التي اختلت بنيتها الاقتصادية كانت تلك التي اعتمدت بشكل متزايد على القطاع المالي الخدمي كانكلترا و فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية حيث وضحت الصورة بأن السيطرة المالية النقدية صنعت من ورق البنكنوت و بنيت على ورق  في حين الدول التي اعتمدت على الصناعة في نهضتها كانت الأقل تأثراً كالصين والهند وإن كان القطاع المالي الخدمي السوري لم يلعب دوراً أو لم يستطع بحكم الظروف المحيطة أن يلعب دوراً أكبر في تشكيل البنى القطاعية السورية فالفرصة سانحة الآن أمام القطاع الصناعي ليلعب دوره لتغذية الناتج المحلي و رفد الوطن بالعملات الصعبة اللازمة لتغطية المستوردات الاستراتيجية فالصناعي يقع على عاتقه واجب وطني بالانتاج والتصدير و التوقف عن التعامل مع الأحداث الاقتصادية المحلية بشكل براجماتي نفعي لا يجنى منه في نهاية المطاف سوى خسارة الجميع .

أما سوق دمشق المالي فلا بد من الاعتراف بأن الوضع الاقتصادي العام قد ألقى بظلاله على الشركات المساهمة المدرجة وخاصة القطاع البنكي الذي تستهدفه بعض من العقوبات الغربية المفروضة على النظام الاقتصادي السوري و أن هذا الهبوط كان متوقعاً ولكن بمجال وحدة أقل فالهيئة وإدارة السوق قد ارتبكت بهذا الهبوط و الدراسات التي يحتاج الخروج منها بقرار خلال أسابيع أصبح يتطلب أياماً فلم تستخدم الأدوات المالية بالوقت المناسب ولكن مع صدور ترخيص الصندوق السيادي برأس مال وقدره ملياري ليرة سورية  فإن استرجاع السوق لزخمه سيكون متوقعاً إن تعاملت الحكومة مع الصندوق السيادي بفعالية من حيث سرعة تشكيل مجلس الإدارة من المساهمين وأصحاب الخبرة  وتعيين المدير التنفيذي ووضع السياسات الاستراتيجية الاستثمارية للصندوق بالصورة التي يدعم استقرار سوق دمشق للأوراق المالية و يعيد الثقة إلى نفسية المستثمر السوري في السوق المالي وتبدو ضوابط الصندوق السيادي متوازنة من حيث ألا يشكل سهماً أكثر من 10 % من رأس المال الصندوق و ألا يشكل الصندوق أكثر من 15% من الأسهم الحرة المعروضة للتداول من كل شركة مساهمة مدرجة في السوق و أما تشكيل رأس المال من المصارف العامة الحكومية و من صناديق التقاعد فإنها وفرت قناة استثمارية جديدة لهذه الجهات التي طالما توفر لديها الفائض النقدي و لكن لم يتوفر دائماً المجال الاستثماري الملائم  لها كما وفرت ميزات مالية للصندوق بإعفاء الأرباح الرأسمالية للصندوق من الضرائب ولكن لا يخفى أن قرار إنشاء الصندوق والذي أتى بضغوط شعبية قد عكس آلية القرار المالي في سوق دمشق و الذي مازال يعتمد سياسة الهروب إلى الأمام وقرار اللحظة الأخيرة .

ولعل في الموازنة التقديرية لعام 2012 و التي صدرت ب 1332 مليار ليرة سورية بقفزة 500 مليار ليرة سورية عن موازنة 2011 أغلبها يتجه إلى الإنفاق الجاري إنما هي محاولة تصحيح لنظام اقتصادي يدير موارد ثلاث و عشرون مليون مواطن سوري و المفارقة أن حتى مع هذه القفزة التي استغربها العديد من المراقبين في حجم الموازنة التقديرية فإنها مازالت لا تشكل ربع الموازنة الحالية لبعض دول الجوار التي أثبتت على أرض الواقع أن الاقتصاد القوي هو من يدعم المواقف السياسية و يشرعها و ليس العكس .

 

خاتمة :

ولعل أكثر ما يلفت النظر في الأحداث الاقليمية والدولية هو تزامن عجز الدول الغربية عن الخروج من أزماتها المالية البنيوية و عودة هذه الدول إلى سياساتها الاستعمارية كوسيلة أساسية لإعادة تمويل الاقتصاد بعدما فشلت اقتصاديات هذه الدول بإعادة توليد الثروة ذاتياً باستخدام الأدوات الإنتاجية والخدمية التي تمتلكها وإن كنا لا نشككك بأهداف ومبادىء الربيع العربي إلا أننا كأمة عربية كنا الأكثر استغلالاً من قبل الشعوب المحيطة  فيما يتعلق بصنع تاريخنا الحديث كما كنا الأقل وعياً بمصالحنا أمام نوايا ومصالح الآخرين عند التدخل .

 

 

No comments:

Post a Comment